سبل وقاية الصانعين :
تبدو إجراءات الوقاية فى المصانع والورش الخاصة بتصنيع جلود الحيوان وصوفه وشعره وعظامه، أشد تعقيداً من ذلك بكثير. وقبل أى إجراء، لابد من تزويد العاملين بمعلومات صحيحة عن المرض ، وعن قواعد النظافة الشخصية التى يلزم التحلى بها .
وكذلك ينبغى الاهتمام بإجراء فحوصات طبية للعاملين ، حتى يمكن الكشف عن المرض، وهو لايزال فى مهده، وتقتضى أصول التوقى من المرض فى أماكن إعداد وتصنيع الجلود والشعر والصوف، عزل العمليات الصناعية التى تنتج الغبار والأتربة الملوثة بالجراثيم ، عن باقى العمليات. والتنبيه على العاملين بإتخاذ الوسائل المناسبة للحماية من التعرض لهذه الأتربة بالاستنشاق . ولابد - كذلك – من العمل على إخماد الأتربة العالقة فى الأجواء بترطيب بيئة العمل، أو شفط الهواء الملبد بالأتربة والغبار . وتعد التهوية الجيدة من أعمدة السلامة فى مدابغ وورش التصنيع ، كما لا تقل أهمية عمليات التبخير والتطهير بالفورمالدهيد. والفورمالدهيد ليس لتطهير بيئة العمل فحسب ، بل لتطهير منتجات الحيوان أيضاً .. فهى تودع أولاً فى الأوتوكلاف، ثم تعرض لغاز الفورمالدهيد الدافئ بتركيز 60% .
ولسوف نعود ثانية إلى سلامة العاملين ، وهى التى تقتضى عزل من يشتبه بإصابته بالميكروب، ثم عمل مزرعة بكتريولوجية فى عينات من دمه، أو من إفرازات جلده، أو من أمعائه، أو رئتيه. وللمزيد من التأكيد، تجرى لهم التحاليل المناعية، للبحث عن الأجسام المناعية المضادة للميكروب. ولاريب أن الكشف المبكر عن هذا المرض ، لمما يهيئ الفرصة للعلاج السريع. ومن بعده يتوجب إجراء التحصين .
جمرة الحيوان ورعب الإنسان :
لفترة طويلة كان شبح خسارة كبيرة فى حيوان المزرعة من جراء الإصابة بميكروب الجمرة ، أسوأ سيناريو يدور فى الأذهان. لكن فى السنوات الأخيرة، تحرك هذا التهديد بقوة إلى الإنسان ، لاسيما بعد التقدم الهائل فى علم البيولوجيا الجزيئية ، الذى جعل هندسة ممرض فائق " Superathogen "، أمراً أكثر سهولة، كما جعل هندسة جرثومة الجمرة من أجل مزيد من الإماتة ، أمراً ممكناً ومتاحاً إلى حد كبير . وبإيجاز شديد ، فإن هذه الجرثومة غدت أكثر قدرة على إثارة الرعب ، ومن ثم أوفر حظاً لدى الباحثين عن سلاح بيولوجى مميت ، للحرب ، وللإرهاب أيضاً .
سـلاح بيولوجـى للحـرب :
لعل أخبث أسلحة الحرب الشاملة ، هى الأسلحة البيولوجية. ويبدو سلاح الجمرة الخبيثة، وكأنما هو أخبث أسلحة الحرب البيولوجية جميعها. ولكن لا يعرف على وجه اليقين متى بدأ استخدم هذا السلاح. ثمة مصادر أمريكية أدعت فى وقت سابق، أن الألمان عمدوا إلى تلقيح الماشية والأغنام بلقاح الجمرة فى عام 1916 على جبهة بوخارست، أثناء الحرب العالمية الأولى ، تأهباً لإطلاق هذا السلاح . ثم أعادوا الكرة على الجبهة الفرنسية ، فى عام 1917 .
على أن تقارير لجنة عصبة الأمم الصادرة فى عام 1924 ، نفت استخدم سلاح الجمرة فى الحرب العالمية الأولى. وفى أثناء الحرب العالمية الثانية ، كثف الخبراء الإنجليز، من جهودهم ، بغية انتاج قنابل الجمرة الخبيثة. وكانت جزيرة جروينارد Gruinard (قرب شاطئ أسكتلندا) هى مسرح تجاربهم المفتوح. ولقد تسبب القلق من قرب هذه الجزيرة من البر الرئيسى للبلاد ، فى تحول مسرح التجارب ، فى عام 1943 إلى منطقة " صافيلد " وسط البرارى المفتوحة فى ألبيرتا – كندا .
وفى الولايات المتحدة ، بدأ برنامج الحرب البيولوجية الخاص بالجمرة الخبيثة فى عام 1942 . ومنذ عام 1943 اتخذ البرنامج موقعاً له أساسياً فى فورت ديتريك
Fort Detrick بولاية ماريلاند . وفى أواخر عام 1943 ، بدأ العمل الجدى لإنتاج قنابل الجمرة، زنة 500 رطل. وتحمل كل قنبلة 106 قنيبلات Bomblets زنة كل منها أربعة أرطال، وهى مهيأة ’ للتحطيم عند الارتطام، ونشر ما تنطوى عليه من جراثيم. وبحلول عام 1944، كانت هناك عدة آلاف من قنابل الجمرة على أهبة الاستعداد للانطلاق. ولكن لم يتسنى إطلاق أى منها فى الحرب، بسبب إحجام الألمان عن إطلاق ما لديهم من أسلحة تدمير شامل. وكذلك لأن الولايات المتحدة رغبت فى حسم الحرب ، بإطلاق قنابلها الذرية على مدينتى هيروشيما ونجازاكى اليابانيتين وظلت، من ثم قنابل الجمرة، تنتظر ..!!.
وفى عام 1979 ، كشف النقاب عن قدرة الاتحاد السوفييتى – السابق - على إنتاج وتخزين عشرات الأطنان من أسلحة الجمرة، ظلت لسنين طويلة، طى الكتمان .
وذكرت مصادر سماها مكتب التقييم التكنولوجى ، فى جلسات لجان مجلس الشيوخ الأمريكى عام 1995، أن هناك سبع عشرة دولة تعنى بتطوير أسلحة بيولوجية (لاسيما أسلحة الجمرة الخبيثة)، وهى : الصين ، وروسيا ، والهند ، وكوريا الجنوبية ، وكوريا الشمالية ، وتايوان ، وكوبا ، وجنوب أفريقيا ، وفيتنام ، ولاوس ، وبلغاريا ، وإسرائيل ، وإيران ، والعراق ، وليبيا ، وسوريا ، ومصر .
سلاح للإرهاب أيضاً :
لعل الكثيرين منا يذكرون الجماعة اليابانية المتطرفة المعروفة باسم "الحقيقة الأسمى" Supreme Truth ، وهى الجماعة التى ألقى بعض أعضائها، فى إحدى محطات قطار الأنفاق بمدينة طوكيو، مركب الأعصاب السام " السارين " Sarin ، فى عام 1995، فقتل من جراء ذلك اثنا عشر شخصاً، وأصيب نحو 5500 آخرين .
لقد أثبتت التحقيقات التى أجريت - فيما بعد - أن هذه الجماعة، قد امتلكت وطورت جراثيم الجمرة ، وأنها حاولت رشها فوق مدينة طوكيو أربع مرات، خلال الأعوام 1990 إلى 1995 .
على أن أكثر أحداث الإرهاب البيولوجى بالجمرة إثارة ، كانت هى التى وقعت مؤخراً فى الولايات المتحدة. ففى الخامس من أكتوبر 2001، أعلن عن وفاة مصور صحفى، بعد أن ثبتت إصابته بالميكروب، ثم أعلن عن وفاة اثنين آخرين من الصحفيين، ثم وفاة سيدة رابعة فى نيويورك فى 31 أكتوبر. ولم تمض سوى أيام ، حتى كانت جرثومة الجمرة تشق طريقها بثقة عبر ولايات فلوريدا ، ونيفادا، ونيويورك، وغيرها، وتصيب بلعنتها عشرات الأمريكيين. وغيرهم عشرات الملايين ممن تولاهم الرعب والفزع من غد مجهول. وهو الرعب الذى لازمهم كلما فتحوا مظروفاً أو رأوا مسحوقاً أبيض، أو شاهدوا سائلاً يرون أنه مشتبه .
ووسط حالة الرعب التى اجتاحت الجميع، أصبحت مكاتب وغرف البريد فى سائر أنحاء الولايات ، وكأنما هى حقول ألغام، تستوجب من سلطات الأمن، نشر كلابها المدربة، بحثاً عن رسائل الجمرة المفخخة، المندسة هنا أو هناك . وأصبح من المشاهد المألوفة، لدى الأمريكيين ، مشاهدة أشخاص يرتدون أقنعة واقية، وهم يقومون بتطهير أو فحص مكان يشتبه فى احتوائه على الجراثيم . وأصبح مجرد ارتياد المواصلات العامة، من قطار، ومترو، وطائرات، مغامرة ما بعدها مغامرة ، تخوفاً من التعرض لهجوم جرثومى وشيك.
ووسط موجات الرعب الجارف، بدأت أصابع الاتهام تتجه شيئاً فشيئاً إلى داخل الولايات المتحدة نفسها، لا سيما بعد أن أذيعت تقارير أمريكية تقول بصراحة أن مسحوق بكتيريا الجمرة، إنما هو صناعة أمريكية ، وأن ثمة متطرفين يمينيين أمريكيين يقفون وراء رسائل الجمرة المفخخة .
ولم يقتصر شبح ميكروب الجمرة على حدود الولايات المتحدة، بل امتد الرعب إلى دول كثيرة بدأت فى تطبيق إجراءات أمنية مشددة ، تحسباً لأى خطر بيولوجى وشيك . ومع تزايد وتيرة الخوف ، بدأ الكثيرون لا يتساءلون فقط عما ينبغى عليهم فعله حال التعرض لهجوم إرهابى بهذه الجراثيم ، ولكن أيضاً لماذا اختيرت الجمرة _ تحديداً _ للقيام بهذا الدور الدنئ ؟
بساطة الإنماء والإكثار :
تبدى بعض الدول وبعض المنظمات الإرهابية على حد سواء ، اهتماماً متزايداً بجرثومة الجمرة ، كأحد الخيارات المفضلة فى أى هجوم بيولوجى منتظر . وهذا مما يدفع إلى التساؤل : لم هذه الجرثومة على وجه التحديد ، وأين تكمن قوة الإغراء فيها ، وما هو السر فى الغواية بها ؟ يعتقد البكتريولوجيون أن المعرفة الواسعة فى التخمير Fermentation ، جعلت أمر إنماء وإكثار هذه الجرثومة أسهل من أى وقت مضى على أى جماعة إرهابية تريد إنتاج كميات كبيرة منها .
وخلافاً لعوامل التهديد النووية والكيميائية ، فإن سلاح الجمرة يمكن تصنيعه من مواد وأدوات متوفرة بسهولة . فالجرثومة واسعة الانتشار فى العالم ، ومن ثم يمكن فصلها وعزلها من الطبيعة ، كما يمكن طلبها من شركات التجهيزات الميكروبيولوجية المتخصصة بأسعار زهيدة. إن هناك ما يربو على خمسمائة مستودع ميكروبى، تنتشر فى سائر بقاع الأرض، وهى تبيع المزارع الميكروبية للمعامل والشركات التى تقوم على إعداد اللقاحات والأمصال، ولكل من يتقدم اليها بطلب للشراء .
خذ على سبيل المثال، شركة الاستنبات الأمريكية، التى تقوم على توفير "شتل " البكتريا لكل طالب، ولو عن طريق البريد . بل أن الشركة نفسها تقوم بتزويد الطالب بمواد استنبات خاصة لدعم تكاثر الميكروب. ناهيك بالطبع، عن إمكان إكثاره على مواد استنباط عادية، لا يصعب إعدادها على المتخصصين . والحق أن ثمة قناعة راسخة لدى البكتريولوجيين بإمكان إقامة منشأة بيولوجية كبيرة لإنتاج ميكروب الجمرة ، بتجهيزات لا يزيد ثمنها على عشرة آلاف دولار ، وفى غرفة لا تتعدى أبعادها 15×15 قدماً .
وعلى عكس العوامل الفيروسية، والتى تقتضى توافر أجهزة انتاج معقدة ، فمن الميسور إنتاج جراثيم الجمرة، فى أى مصنع للمواد البيولوجية ، أو حتى مختبرات صغيرة للغاية. ومن السهولة بمكان احاطتها بالسرية التامة المطلوبة ، فهى لا تشغل حيزاً يذكر. ومن الممكن إنتاجها فى معامل تحت ستار أنها معامل أبحاث طبية أو معامل بيولوجية أو ما شابه ذلك .
وبالإمكان أيضاً تنمية وتكثير تريليونات من هذا الميكروب ، من دون أى خطر على القائمين على هذا العمل، وباستخدام تجهيزات لاتزيد على جهاز تخمير ، يشبه جهاز تخمير البيرة، وبيئة استنبات بروتينية وقناع واق ولباس خارجى من البلاستيك. على أن المفاجأة تكمن فى إمكان انتاج سلاح الجمرة فى المنازل … فالأغذية العادية بما تحويه من أحماض أمبنية ومغذيات تصلح لإستنبات الجراثيم وتنميتها . ولكن ينبغى أولاً تعقيم بيئة الزرع المنزلية (تلك) فى جهاز تعقيم (أوتوكلاف)، لتطهيرها من البكتيرات الأخرى التى قد تكون برفقة بكتريا الجمرة .
وتدفع ظروف النمو المناسبة البكتريا إلى الانقسام كل 20 دقيقة، فتتحول الخلية الواحدة إلى بلايين الخلايا، خلال عشر ساعات. كما تستطيع كمية قليلة منها انتاج ترسانة جرثومية رهيبة، خلال بضعة أيام .
ما أيسر الانتشار :
يعتقد بعض الأكاديميين أن المعرفة الواسعة والمتقدمة فى تكنولوجيا النشر Dispersion technology ، جعلت أمر نشر جراثيم الجمرة أسهل من أى وقت مضى. فالحق أن بالإمكان استخدام الجراثيم فى صورة مساحيق أو سوائل . ومثل هذه المرونة فى الاستخدام، تتيح امكانية أكبر للنشر والإطلاق .
إن ثمة طرقاَ كثيرة للنشر والإطلاق ، تعتمد على بث ونثر سحب الجراثيم فوق المناطق المستهدفة، أو مع الريح المتجه نحوها .. فمن الممكن _ مثلا – نشر الجراثيم مباشرة من قاذفات قنابل تطير على ارتفاع منخفض ، بطول خط يبلغ مئات الكيلومترات عمودياَ على ممر الريح .
ومن الممكن استخدم طائرات خفيفة ، تطير على ارتفاع منخفض، وتسقط العشرات من القنيبلات، التى تحوى كل منها عدة كيلو جرامات من مسحوق البكتريا الجاف، فى خط طوله عدة كيلو مترات، عمودياً على ممر الريح. وتطلق القنيبلات الجراثيم فى صورة أيروسول، لايزال ينتشر فى الهواء، حتى يغطى المنطقة المستهدفة. ومن الممكن رش مسحوق من الجراثيم مباشرة بواسطة طائرات الرش، على هيئة رذاذ يظل عالقاََ بالجو، حتى يستنشقه أكبر عدد من الضحايا .
ويستطيع زورق صيد لا يثير أية شبهات ، أن يذرع شواطئ مدينة ساحلية، أو يدور حول جزيرة مأهولة بالسكان، ويرش جراثيم الجمرة من بخاخات لا تلفت الانتباه، ليحدث آلاف الإصابات فى زمن قليل، وبكلفة محدودة. ويمكن قذف لمبات زجاجية تحتوى على الجراثيم على قضبان مترو الأنفاق ، أو قضبان السكك الحديدية. ويكفى أن يقوم أحد الوكلاء بمهمة نشر الجراثيم على أوسع نطاق إذ أن زجاجة صغيرة، بحجم زجاجة قطرة العين، يمكن أن تحمل أكداساَ من الجراثيم ، تكفى لإصابة مدينة صغيرة بالمرض والوباء .. فإذا ما تم تلويث مصدر الطعام أو مياه يستخدمها السكان، فسرعان ما يصاب البعض، ثم تنتقل العدوى فى صورة وباء إلى بقية السكان .
وقد يعتمد الهجوم الجرثومى على أساليب بسيطة للغاية، مثل وضع مسحوق الجراثيم فى رسائل ومظاريف، ترسل إلى أى مكان فى العالم عن طريق مكاتب البريد. ولقد رأينا كم أضفت حوادث رسائل الجمرة المفخخة فى الولايات المتحدة، مصداقية مخيفة على هذه الوسيلة إلى حد كبير .