وسائط الانتقال إلى الأبدان :
يمكن القول أن بكتيريا الجمرة تلعب مع الإنسان مباراة غير عادلة .. فلهذه البكتيريا حيل كثيرة تحتال بها للدخول إلى الأبدان . فهى قد تدخل عبر الأنف، أثناء الاستنشاق، محمولة على الأتربة، لاسيما أتربة صوف وشعر الحيوان المصاب، وأتربة الجلود الجافة والروث الجاف . وقد تدخل عن طريق الفم ، إلى القناة الهضمية، فى ماء الشرب الملوث أو فى الطعام . وقد تحدث العدوى عن طريق التلامس الجلدى المباشر والمستمر مع حيوانات مصابة، أو مع إفرازاتها أو منتجاتها مثل الشعر والصوف ، أو مع التربة الملوثة بجراثيم الميكروب. بل إن العدوى يمكن أن تحدث لدى استخدام فرشاة حلاقة مصنوعة من شعر حيوان مصاب .
على أن العدوى الجلدية تقتضى وجود جروح مكشوفة أو خدوش. وفى كل الأحوال، فإن نقل العدوى من إنسان إلى إنسان، نادر الحدوث، إذ لابد من تلامس مباشر لموضع الإصابة، أو حدوث تداول ردىء للغيارات الملوثة بالميكروب.
العدوى .. صنوف وأنواع :
عدوى الجمرة صنوف متعددة، من حيث مهنة المصاب، ومن حيث موضع الإصابة، ومن حيث درجتها أيضاً. والواقع أن الباحثين يصنفون عدوى الجمرة وفقاً لمهنة المصاب إلى صنفين، عدوى من النوع الزراعى ، وأخرى من النوع الصناعى. والصنف الأول، هو الذى ينتشر عادة بين المزارعين والجزارين والأطباء البيطريين والباثولوجيين ، وهم الذين يلامسون الحيوان المصاب، وتحدث لديهم العدوى فى الجلد ، فى شكل بثرات .
ويشيع الصنف الصناعى، بين العاملين فى الورش والمصانع التى تقوم على إعداد وتجهيز وتصنيع منتجات الحيوان. وتتباين شدة العدوى ، حسب نوع الصناعة ، ومدى كفاءة المعالجات المبدئية التى تجرى على المنتجات . وتظهر العدوى -هاهنا - إما فى شكل بثرات خبيثة على الجلد ، أو فى صورة التهابات فى الرئات .
ويصنف الباحثون العدوى من حيث الكم، إلى عدوى شديدة حادة ، وأخرى هينة محدودة التأثير. كما يصنفونها، وفقاً لموضع الإصابة فى جسم الإنسان، إلى ثلاثة أشكال : الرئوى، والجلدى، والمعوى. وهذا التصنيف الأخير هو الذى يدخل بنا إلى الأعضاء المريضة، فى كلمة نقولها قصيرة .
جمرة الصوافين رئوية :
لقد تملكتنى الدهشة إزاء هذا الإحصاء : "إن استنشاق جزء من المليون من الجرام من جراثيم الجمرة - نحو خمسين ألف جرثومة - يكون كافياً لأن يصاب المرء بمرض الجمرة الخبيثة الرئوية Pumondry anthrax . وبتعبير أفصح ، فإنه يكفى استنشاق عدة آلاف قليلة من الجراثيم (هو ما يغطى مساحة أصغر من النقطة التى فى نهاية هذه الجملة)؛ لأن تصاب الرئتان بمرض مهلك قتال.
ولعلنا نشير إلى أن حجم جرثومة الجمرة يبدو ضئيلا للغاية على نحو يجعله هو الحجم الأمثل الذى يناسب الاستنشاق، ومن ثم الولوج إلى داخل حويصلات الرئات [يتراوح نصف قطر الجرثومة من واحد إلى خمسة ميكرنات (جزء من ألف من المليمتر)].
والواقع أن النوع الرئوى، لهو بحق أشد أنوع الجمرة فتكا، وأكثرها خطورة على الإطلاق، إذ تصل نسبة الوفاة إلى 100%، إذا لم يعالج بمضادات الحيوية فى غضون ساعات. ومن المحتمل جداً أن يداهم المصاب الموت فى بحر أسبوع على اكثر .
ومما يستطاب ذكره، أن الجمرة الرئوية، تعرف لدى العامة بمرض فرازى الصوف Wool – sorters disease ، أو مرض ندا فى الصوف، لأنه يلاحق فى الأساس العاملين الذين يفرزون الصوف. وتحدث الإصابة، حينما يستنشق العامل غبار الصوف أو أتربته الملوثة بالجراثيم. وإذ تصل الجرثومة إلى الرئتين، وتبدأ تتنبه، وتتكاثر سريعاً.
ولعلها تنمو فى الغدد الليمفاوية المنصفية Mediastinal L.Glands فتسبب نخرها، ثم تنطلق منها لتصيب الأنسجة المجاورة، وتصيب البلورا والرئتين، ويظهر إفراز مصلى صديدى Serosanguinous ، وارتشاح فى الرئة Pulmonary oedema . وتظهر الأعراض لأول مرة بعد يوم من الاستنشاق، وقد يتم تشخيصها خطأ بأنها انفلونزا وبرد عام، ولكن هذه الأعراض الأولية، لاتلبث أن تتبعها كحة حادة يصحبها دم فى البصاق، وحمى شديدة (39- 40م°)، وصعوبة فى إطلاق الأنفاس، وزرقة Cuanosis ، وصدمة Shock، وإغماء Coma ، ثم اختناق قاتل مميت .
فإن قيض الله للمصاب من يسعفه فى أول الأمر، وقبل أن يبلغ الميكروب تيار الدم ، بأن أعطاه مضادات الحيوية المناسبة ،خرج من ازمته بسلام. أما إذا كان الميكروب نجح فى النفاذ إلى الدم، وإلى الدماغ، فإن العلاج يكون عسيرآ، وتكون الوفاة قاب قوسين أو أدنى. وتدعى هذه الحالة"بالجمرة السحائية" Meningeal anthrax . وهى تتميز بوجود دم منتن من السائل المخ شوكى. ويستطيع الباحث البكتريولوجى العثور فى هذا السائل على الكثير من بكتريا الجمرة.
جمرة الجزارين جلدية :
الجمرة الجلدية Cutaneorus anthrax ، أو الأوديما الخبيثة هى أكثر الأنواع انتشاراً وذيوعاً، فهى تمثل نحو 95% من جملة الإصابات الحادثة.
ولكنها هى الأقل خطورة، إذ تتراوح نسبة الوفاة بها ما بين 5-20%، حينما لا يكون علاج، أما فى وجود العلاج المناسب بمضادات الحيوية، فإن حالات الوفاة تقل كثيراً، بحيث لا تكاد تذكر. وحتى يتسنى الإصابة بهذا الداء، فإنه لابد من حدوث تلامس واحتكاك بحيوان مصاب، أو بإفرازاته ومنتجاته الملوثة بالميكروب على أن يكون ذلك قريباً من جرح أو خدش فى الجلد، هنا أو هناك .
ويشيع هذا النوع لدى الجزارين والعاملين فى دباغة الجلود، ومربى الحيوان، والعاملين فى السلخانات وفى صناعة اللحوم، وفى المختبرات الباثولوجية، كما قد يظهر بين الأطباء البيطريين. وقد يظهر أيضاً فى وجوه من يستعملون فرشة حلاقة مصنوعة من شعر حيوان نافق بالجمرة .
وبداية ظهور علامات الإصابة، أشبه ما تكون بلدغة البعوض، حيث تبدو على هيئة بقعة حمراء ملتهبة .. تبدأ بعد ساعات أو أيام من انتقال العدوى إلى المريض. وعلى الفور يتطور الالتهاب إلى فقاعة تحتضن سائلاً من صديد Pustule ، لا تلبث أن تنفجر من تلقاء نفسها ، لتخلف بعد أن تجف غلافاً فاحماً، تحيط به فقاقيع مائية وصديدية صغيرة blebs ، على مساحات حمراء ملتهبة ومنتفخة .
وتعزى تسمية المرض ب " الأوديما الخبيثة " إلى وجود هذه المساحة المتورمة [الأوديما هى تجمع سوائل تحت الجلد]. ويصاحب ذلك السيناريو، حدوث التهاب فى الغدد الليمفاوية القريبة من الإصابة، وحمى شديدة، وتوعك عام، وتقيؤ، وصداع، وآلام فى العضلات وغثيان .
وينجح العلاج بمضادات الحيوية، قبل أن يصل الميكروب إلى الدماء .. أما إذا تأخر العلاج، وكان الميكروب نفذ إلى الدم والدماغ ، فإن العلاج يكون عسيراً، وتوصف الحالة عندئذ بالجمرة السحائية، وهى تؤدى غالباً إلى الوفاة .
جمرة الآكلين معوية :
قد يدخل ميكروب الجمرة إلى القناة الهضمية للإنسان عن طريق الفم، فى ماء الشرب، أو فى الحليب، أو فى اللحم، أو سوى ذلك من طعام، والذى يحمله إلى ماء الشرب تلويثه، ويأتى أصلاً من إفرازات حيوان مصاب. والذى يحمله إلى الحليب تلويثه، ويأتى أصلاً من بثرة خبيثة بأصابع الحلاب. والذى يدعه فى اللحم، إنما هو الطهو الهين،
والطهو السريع. وإذ يتكاثر الميكروب فى الأمعاء، تبدأ تظهر أعراض الجمرة المعوية
anthrax Gastro intestinal ، بعد يومين إلى خمسة أيام من أخذ الطعام الموبوء. ومن السمات المميزة لهذا الداء ، ظهور قرح والتهابات شديدة فى الأمعاء Enteritis ، ينتج عنها نزيف داخلى حاد ، كما يقترن بحدوث احتقان بالأحشاء، لاسيما بالطحال، ويصحبه عادة التهاب بأغشية الفم وتورمات فى الوجه والزور واللسان .
على أن الأعراض تبدأ غالباً بحمى شديدة (39 -40 °م) ورعشة وهذيان، مع تقيؤ يعقبه آلام تقبض وتقلص فى عضلات البطن. ويشكو المريض مر الشكاوى من إسهال مدمم ورغاوى بالفم مدممة أيضاً، كما يحس بإعياء ثم تجتاحه صدمة، تسلمه إلى الوفاة .
ومرة أخرى.. يبقى العلاج بمضادات الحيوية هو حائط السد الأساسى، فإن عز العلاج، أصبح الموت هو النهاية المحتومة، فى نحو 25-60% من الحالات. ولا ننسى أن الجمرة السحائية القاتلة، وصفت فى حالات الجمرة المعوية المتأخرة، وهى التى تنتج عن وصول الميكروب إلى الدم والدماغ .
الوقاية فى مزرعة الحيوان :
بعدما ذكرنا من أمر داء الجمرة، ومن أصوله، وسبل انتقاله، تصبح واضحة سبل توقيه .. فالوقاية دوماً هى الخيار الأفضل .. هكذا يقول المعنيون بشئون الصحة .. صحة الحيوان، وصحة الإنسان على حد سواء. وتحتاج الوقاية إلى توعية المزارعين ومربى الحيوانات، وتعلمهم وتثقفهم، وتحتاج إلى تفهمهم الصحيح لكل حلقات السلسلة الجهنمية التى من خلالها ينفذ الميكروب إلى الأبدان ومن بعد ذلك، ينبغى حثهم على العناية بأصول النظافة الشخصية، وترهيبهم من إهمال الجروح الجلدية على وجه الخصوص. وهذا يقتضى لبس القفازات المطاطية عند لمس الحيوان، أو لدى التعامل مع إفرازاته الملوثة. ولابد من تنظيف الأيدى على نحو كفءء ، بعد الفراغ من أداء الأعمال. وفى الوقت نفسه، يمكن صيانة العاملين وحيواناتهم المعرضة للإصابة ، أو المحتمل تعرضها للإصابة بالمرض، بإعطاء اللقاحات المناسبة .
إن " لقاح باستير "، وهو لقاح حى وضعيف ، يناسب وقاية الحيوان، ولكن لا يلائم الإنسان. أما لقاح " بالتوكسويد "، فهو اللقاح الآدمى الذى يعطى للمربين. واللقاح يعطى عادة بالحقن العضلى على ثلاث جرعات بين كل جرعة ثلاثة أسابيع، ثم جرعة رابعة بعد ستة أشهر، ثم جرعة منشطة كل عام .
ولأن من الصعب القطع دوماً بسلامة قطيع الحيوان، فقد تظهر بعض حالات الإصابة .. وهنا يتوجب عزل الحيوان المصاب عن السليم، على أن تودع الحيوانات السليمة فى الحجر البيطرى لمدة أسبوعين من ظهور آخر حالة عليلة. ولابد من الإسراع فى معالجة الحيوانات المشكوك فى سلامتها ، بإعطائها مضادات الحيوية ، لاسيما البنسلين ، والسيبروفلوكساسين Ciprofloxacin ، ثم إجراء عمليات التحصين باللقاح بعد تمام الشفاء .
أما إذا نفق بالمرض أحد الحيوانات، فقد وجب الحذر والاحتياط. فالحيوانات النافقة تعد بحق مخزناً للميكروبات. وإذن، فقد وجب التحذير من تشريح جثتها أو شقها، ولا حتى إدماؤها أبداً .
ومن البديهى، أن يمنع بيع جلودها، أو الانتفاع بشىء منها ، كأن تجفف وتطحن ويتخذ طحينها كمكملات غذائية للأعلاف مثلاً . ففى ذلك خطر ، وأى خطر .ولكن لابد من دفنها على الفور كاملة ، وفق شروط خاصة مشددة . فلا يصح أن تدفن بأرض تنمو بها الحشائش والأعشاب التى ترعى فيها الحيوانات .. فقد أثبتت تجارب الباحثين أن جثث الحيوانات المدفونة تتحلل فى التربة مع الأيام، وتنساب منها ميكروبات الجمرة، التى تستطيع العيش بين حبيبات الثرى لفترات طوال .
وكذلك، فإن جحافل الديدان الأرضية، يمكنها القيام بنقل هذه الميكروبات ، أثناء حركتها الدائبة إلى الطبقات العليا من التربة. وهكذا تتلوث الأعشاب النامية بالميكروب ، ومن ثم يجد سبيله إلى أبدان الحيوانات الراعية عليها ويمرضها. فما الذى يفعل بجثة الحيوان النافق إذن ؟ ينبغى الذهاب بعيداً فى منطقة نائية عن مرعى الحيوان . وهناك تضرم فى الجثة النيران، أو توسد فى حفرة عميقة لا يقل عمقها عن مترين ، ويهال عليها الكثير من الحجر الجيرى الحى. إن هذا الإجراء ضرورى ومهم، ولعله يوفر قدراً أكبر من الأمان