المقدمة:
" لماذا هذه السرية حول هذا المرض الجرثومى الذى يصيب عادة مزارع تربية الحيوان.. ؟" .. هكذا تساءل رئيس الوزراء البريطانى "ونستون تشرشل" ، بينما كان يفض تقريراً بتاريخ 24 فبراير عام 1944، قدمه إليه مستشاره العلمى "اللورد شيرويل"، وكتب عليه بالحبر الأحمر، وبالخط السميك (سرى للغاية) !!
إنه تقرير عن مرض الجمرة الخبيثة، والذى يصفه التقرير " بأنه من أخبث الأمراض .. فلو أن أحداً استنشق قدراً محدوداً من جراثيمه ، لداهمه الموت فى غضون ساعات أو أيام ". ويمضى التقرير قدماً إلى غايته : " ولو أن طائرة من طائراتنا رشت من جراثيمه فوق مدينة من مدن أعدائنا الألمان، فانتشرت فيها لكانت لها نتائج مذهلة فى حسم ما بيننا وبينهم من صراع .. " .
أرأيت !! فهذه الجرثومة التى تصيب فى الأساس الحيوان ، هى بالفعل الأوفر حظاً فى بحوث الحرب البيولوجية ضد الإنسان !!
التاريخ الأسود .. للجمرة :
إن التاريخ ذكر الكثير من الأمراض الوبائية . وأوبئة الجمرة الخبيثة ذكرها التاريخ. وإن صحائفه لتحتفظ فى غير موضع بحوادث مأساوية وقعت للحيوان وللإنسان معاً، بسبب هذا الداء الوبيل. ففى القرن السابع عشر، وصف التاريخ لنا وباء وقع فيه، ضرب القارة الأوروبية، وخلف وراءه ما يربو على ستين ألفاً من البشر، إلى جانب عشرات الألوف من رؤوس الحيوان، ومرة أخرى .. ضرب الوباء القارة الأوروبية فى أواسط القرن الثامن عشر، وأدى إلى نفوق نصف مليون رأس من الأغنام .
ومضى التاريخ يأتى بالوباءات التى امتدت فشملت العالم، ومنها الوباء الذى اجتاح سيبيريا فى عام 1875، والذى أطاح بمائة ألف رأس من الجياد. ومنها الوباء الذى عم القارة الأوروبية خلال القرن التاسع عشر، وأطاح بحياة ما يقارب نصف رؤوس الأغنام فى فرنسا وحدها، ثم امتد الوباء إلى سائر حيوانات المزرعة من أبقار وخنازير وماعز وجياد . وباتت الثروة الحيوانية مهددة بالأفول والفناء .
ومنها الوباء الذى بدأ فى روسيا عام 1914، وتسبب فى نفوق ما لا يقل عن ثلاثة وأربعين ألفاً من رؤوس الماشية. ومنها الوباء الذى بدأ فى إيران عام 1945، وأودى بحياة مليون رأس من الأغنام. ومنها الوباء الذى ضرب زيمبابوى ما بين عام 1978 وعام 1980، والذى أدى إلى إصابة نحو عشرة آلاف من البشر، مات مائة منهم بسبب هذا المرض اللعين. ومنها الوباء الذى بدأ فى سيبيريا عام 1979 .
ولا يزال مرض الجمرة الخبيثة - إلى اليوم - مرضاً مستوطناً فى بعض البلدان الافريقية والآسيوية، وأخصها الفقيرة، التى ليس لديها برامج بيطرية تطيعمية كافية، وهو يثور ويمتد أحياناً. وهو إذ يثور يطال من بعد الثروة الحيوانية، الإنسان. ويكتشف فى العالم ما بين ألفين إلى 200ألف حالة بالجمرة ، فى كل عام .
والواقع أن الضريبة التى يفرضها مرض الجمرة الخبيثة على الإنسان والحيوان ، تكون باهظة فى كثير من الأحيان. ولقد ظل علماء بيولوجيا الكائنات الدقيقة طوال المائة والعشرين عاماً الماضية يتعلقون بفكرة مغرية ، هى محاولة استئصال شأفة هذا المرض ، واتقاء آثاره المدمرة بقدر المستطاع .
على أن هذا ليقتضى منهم بالضرورة معرفة أوسع بطبائع جرثومة الجمرة، من حيث دقائقها التركيبية وخصائصها المرضية، وما تنطوى عليه من نقاط ضعف أو مراكز قوة. إن معرفة أعمق بهذا الميكروب، يمكن أن تمكن الباحثين من الانقلاب عليه، وربما ترويضه أيضاً .
الباحثون عن مسبب الوباء :
الجمرة الخبيثة : تعرف فى لغة الطب باسم (الانثراكس) Anthrax . وهى كلمة مشتقة من اليونانية، بمعنى الفحم أو البقعة السوداء أو الدملة الخبيثة. والتسمية دقيقة، لأن الناس منذ مئات الأعوام - كانوا يرون على جلود المصابين بثرات وردية تتسع رقعتها سريعاً ويتحول قلبها إلى اللون الأسود، ثم يتساقط الجلد كرماد الفحم سواء بسواء .
لم يكن أحد يعرف شيئاً عن مسبب الداء، ولا عن الوسيلة التى يتخذها للإنتقال من حيوان إلى حيوان إلى إنسان. قالوا : إنه عفريت يركب الحيوان والإنسان، ويشعل فيه النار من داخله، فيغدو جلده متفحماً. ولكن بعض الباحثين عندما نظروا تحت عدسات المجهر، وجدوا فى دماء الأغنام المصابة أجساماً صغيرة تشبه العصى متراصة بجوار بعضها. وجدها فى ثلاثينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر، كل من : Delafond & Fucho .
وفى عام 1863 تمكن البيولوجى الفرنسى " كاسيمير - دوزيف دافين " Davaine - لأول مرة - من نقل العدوى إلى الحيوانات، بحقنها بعينة من دماء تحتوى على العصيات . على أن الباحثين ظلوا فى حيرة من ماهية هذه العصيات المجهرية الدقيقة .. وهل هى العامل المسبب للوباء ؟
بيد أنهم لم يواصلوا بحوثهم للحصول على إجابة محددة لهذا التساؤل .. وظل الأمر هكذا حتى ظهر عالم ألمانى مجهول كان يعمل فى غرفة ضيقة جداً فى برلين .. هذا الرجل هو " روبرت كوخ " Koch .. عبقرية فذة فى الفهم والصبر وبعد النظر. ففى عام 1876 كلف " كوخ " ، حينما كان يعمل طبيباً بولاية وولشتاين، ببحث وباء الجمرة الخبيثة للكشف عن مسببه، إذ كان حينذاك ذائع الانتشار فى القارة الأوروبية، حتى عرف بتحمله وزر النفوق المثير والمتتالى للآلاف من رؤوس الأغنام والماعز والخنازير والجياد . كما عرف بقدرته على إمراض المزارعين الذين يقومون على أمور تربية الحيوان .
وبدأ " كوخ " أولى تجاربه بفحص دماء أغنام نفقت لتوها بالمرض، فوجدها تزخر بالعصيات، فقام من فوره بفحصها ثم عزلها فى صورة بالغة النقاء، وعمل على تنميتها فى منابت غذائية مناسبة داخل المعمل . وعندما اكتمل نموها ، أعاد فحصها تحت عدسات المجهر ، وتيقن من أنها لا تمثل سوى طرازاً واحدا نقياً من الكائنات الدقيقة المعروفة بالبكتيريا . وبدا له أن يزداد ثقة واطمئناناً بأن هذه العصيات البكتيرية هى بذاتها المسبب للداء، فراح يأخذ منها ويحقن العديد من الأرانب السليمة، وكذا الفئران والأغنام .
ولشد ما كانت دهشته ، حينما ظهرت - بعد أيام - أعراض الجمرة الخبيثة على جميع الحيوانات، قبل أن يقضى المرض عليها بالهلاك . وإذن .. فالعصيات البكتيرية هى المسبب لهذا الداء .. هكذا قال " كوخ " .. ولكن باحثين آخرين عارضوا ما قال ، إذ لم تدل تجاربهم قط على أن ثمة علاقة بين وباء الجمرة العاصف والعصيات .
وفى عام 1881 وجه الكيميائى والبيولوجى الفرنسى " لويس باستير " Pasteur ، اهتمامه لدراسة العصيات، لاسيما بعد أن تضاربت بشأنها الآراء. وأعاد " باستير " تجربة فصل وعزل العصيات من دماء الحيوانات النافقة ، كما أجراها " كوخ " .
وفى كل مرة كان يحصل على العصيات نفسها، ثم عمد إلى تنميتها فى منابت غذائية مناسبة، وانتظر حتى نما الميكروب العصوى. وإذ ذاك بدأ فى نقل قطرة من بيئة الزرع ، إلى وعاء ثان ، يحوى البيئة المغذية نفسها .. وانتظر حتى نمت عصياتها ، ثم قام بنقل قطرة منها إلى وعاء ثالث ، ثم رابع ، فخامس …. ، إلى الوعاء الأربعين .
وحتى يزداد ثقة واطمئناناً بان العصيات النامية فى الأوعية الأربعين هى بالفعل مسبب الوباء . قام بحقن عشرة من الحيوانات المعملية بعصيات كل وعاء على حده، حتى صار لديه أربعمائة حيوان رهن التجريب . ولكم كان سروره عظيماً، حينما نفقت سائر الحيوانات متأثرة بأعراض الجمرة، بعد عدة أيام من الحقن بالعصيات. وكان هذا كشفاً من الطراز الأول ، إذ كان متقدماً على عصره ، بدرجة لم يستطع معها أحد ان يجادله .
--------------------------------------------------------------------------------
Dr.Rawad11-05-2006, 05:05 مساء
العصيات تحت العدسات :
هكذا أسفرت المطاردة عن الإمساك بالميكروب مقبوضاً عليه فى الأوعية والأنابيب . ولكن كان لابد للباحثين من كشف خباياه . أعنى دراسة طبائعه وخصائصه التركيبية ومعرفة أسرار الأبجدية الجزيئية التى ينطوى عليها، حتى يتمكنوا من مكافحة عدوانه الأثيم .
ولعل التساؤل الذى قد يطرأ بذهنك الآن هو : هل لبكتيريا الجمرة شكل خاص يمكن به أن نتعرف عليها ؟ هذا صحيح : فهى تظهر تحت عدسات المجهر كعصيات (باسيلات Bacilli) طويلة ، ولهذا يطلق عليها البكتريولوجيون اسم " باسيليس انثراكيس " Bacillus anthracis . على أنها لا تظهر كعصيات مفردة، بل إنها تميل إلى الانتظام متراصة جنباً إلى جنب، فى شكل خيوط أو سلاسل طويلة، كما تنتظم عقل الإصبع مثلاً . وأصل ذلك يكمن فى طبيعة التكاثر .. فالخلية البكتيرية بعد أن تبلغ أقصى حجم لها وتنقسم إلى اثنتين، فإن الخلايا الوليدة تعجز عن الانفصال. وإذن تنمو على هيئة تجمعات خيطية الشكل. لقد قدر الباحثون طول بكتيريا الجمرة بنحو 8 ميكروميتر ، وعرضها بنحو ميكروميتر واحد .
وتحت عدسات المجهر، لاحظوا أن البكتيريا لا تتحرك حركة ذاتية مستقلة، بحسبانها تخلو من أسواط Flagella تتوسد عليها . وهكذا تعتمد فى انتشارها على النقل بالهواء أو بالتيارات المائية أو على حملها فى تجاويف الحيوانات التى تعولها ، أو تلك التى تحملها على ظهورها، وفى صوفها وأوبارها وأشعارها .
ولأن الباحثين لا يعتمدون كلياً على شكل الميكروب لوضعه فى مكانه الصحيح ، فقد راحوا يجرون المزيد من الاختبارات . فعرفوا أن عصيات الجمرة موجبة التلوين بصبغة جرام (Gram+) [الجرام : صبغة تقبلها بعض أنواع البكتيريا فتسمى موجبة الجرام وترفضها بعض الأنواع فتسمى سالبة الجرام] . وهذه صفة مفيدة فى حالة تمييز أنواع البكتيريا عن بعضها على وجه العموم .
وعرفوا أنها لا تستطيع العيش طويلاً بدون الهواء ، فهى تستخلص الأكسجين منه ، وتؤكسد به بعض المواد لتنطلق منها الطاقة اللازمة لإطراد الحياة على أوفق حال . ولكى يحفظ هذا الميكروب العنيد نفسه من البيئة الخارجية، فإنه يحيط جرمه بغلاف طبيعى واق يعرف بالعلبة أو الكبسولة Capsule ، كما تساهم الكبسولة أيضاً فى تماسك الخلايا مع بعضها البعض .
والواقع أن لدى بكتيريا الجمرة حيل وقدرات كثيرة للتغلب على الظروف الصعبة غير المواتية، التى قد تجبر على العيش فيها ، فلكى تبقى على قيد الحياة، فإنها قد تستخدم الأساليب التى تزاولها بعض أخواتها من البكتيرات ، وأعنى بها تكوين الأبواغ (الجراثيم الداخلية) Endospores .
وبهذه المناسبة ، فإن " كوخ " كان هو أول من لفت الأنظار إلى تلك الظاهرة. فلكى يجيب عن التساؤل : كيف تتحدى بكتيريا الجمرة الشتاء الثلجى، وتعيش فى التربة حتى تقتل الماشية وتصيب المزارعين فى الربيع التالى، عمد إلى تنمية عدة خلايا منها فى بيئة زرع مناسبة، وانتظر حتى حصل على قدر مناسب يكفى لتجاربه القاسية التالية .
فقد راح يجفف الخلايا البكتيرية، ويعرضها لحرارة عالية، ثم لبرودة فائقة، ثم قام بفحصها تحت العدسات ، وإذا به يرى الشكل العصوى المميز للبكتيريا، استحال إلى شكل كروى. إنها الجراثيم أو الأبواغ ، كما أطلق عليها " كوخ ".. ولاحظ أن الجراثيم تكون متمركزة فى وسط الخلية، وذات حجم يماثل حجم الخلية الأصلية .
ولكن .. هل ماتت البكتيريا لقاء المعاملات القاسية التى أجراها " كوخ " ، والتى كانت سبباً فى تحولها إلى أبواغ مجففة صامدة ، لا تبدى أى مظهر من مظاهر الحياة ؟ هذا ما حاول " كوخ " الإجابة عنه .. ولذا فقد عمد إلى وضع بعض من أبواغه فى بيئة زرع مناسبة، وراح يتابع ما يجرى تحت عدسات مجهره، بصبر لا ينفد .
فرك عالمنا الهمام عينيه دهشة، وهو يشهد الأبواغ الكروية الصلبة، تستحيل إلى خلايا عصوية ناشطة، لم تلبث أن استعادت قدرتها على إيذاء الأحياء .
والواقع أن جراثيم الجمرة تعد من أكثر أشكال الحياة التى نعرفها مقاومة لظروف البيئة القاسية، فهى تبدو صامدة أمام الحرارة العالية، كما تقاوم بشدة أشعة الشمس، والجفاف الطويل، لفترة تمتد إلى عشرات السنين، فهى ذات عمر وسطى مديد. وهذا ما يشكل عائقاً أمام إزالة التلوث من أى مكان أو بيئة تلوثه، إذ تجعل الجراثيم التربة التى تستقر بين حبيباتها خطرة لسنوات طويلة. كما تجعل سائر المنتجات الحيوانية التى تلوثها، كالصوف ومسحوق الدماء ومسحوق العظام، وحتى الجلود بعد دبغها مصدراً خطراً للعدوى.
على أن هذه الجراثيم، المتينة الجامدة، على ضراوتها يمكن أن تمتص الماء من الوسط المحيط ، بمجرد أن تتحسن حولها الظروف، وعندئذ تنتفخ ممزقة جدارها، وتخرج منها خلية خضرية ناشطة، تهوى غزو الأبدان فتمرضها .. أبدان الحيوان والإنسان معاً.
الجمرة فى مزرعة الحيوان :
فجأة ، مات الحيوان، دون ظهور أية أعراض مرضية مميزة واضحة عليه .. فماذا نكتب فى شهادة الموت؟ الواقع أن النفوق الفجائى للحيوان ، لمما يثير عاصفة من الشك فى أن تكون حالة حادة من الجمرة الخبيثة ، هى سبب الموت. وتبدو عندئذ جثة الحيوان منتفخة، تسيل من فتحاتها الطبيعية (كالأنف والأذن ..) دماء سوداء لا تتخثر .
ولكن فى الإصابات الأقل حدة ، تظهر على الحيوان مثل هذه الأعراض : فهو يبطئ كثيراً فى سيره، وتقل حركته، وتخور قواه، ويسير منكس الرأس، مرتعد الأوصال ، تجتاحه حمى شديدة، وشيئاً فشيئاً تضيق لديه الأنفاس. وقد تظهر فى منطقة الزور، وفى الجزء السفلى من العنق تقيحات، كما يحدث تضخم فى غدده الليمفاوية، ويشتد عليه الإسهال. وفى الحيوانات العشار يحدث عادة إجهاض، كما يقل إدرار الحليب لدى الحيوان الذى يرضع الصغار، ويميل لون الحليب الناتج إلى الصفرة أو يكون دموياً. والحق أن الحيوانات الثديية ذوات الدم الحار، لاسيما الماعز والأغنام والبقر والجياد والجمال، يمكن أن تصاب بهذا الداء الوبيل .
ومن المثير.. أن عدوى الجمرة قد تنتقل من حيوان مصاب إلى آخر سليم، من خلال لدغ الحشرات الماصة للدماء. على أن الشائع أن تنتقل العدوى إلى الحيوان عن طريق الفم، إذا غذى بعليقة تحتوى على مسحوق عظم ملوث بالأبواغ ، وإذا أكل عشباً نامياً فى تربة ملوثة، كانت مدفناً لما نفق بالجمرة من الحيوان .
وهاهنا قد يذكرنا واحد من أصحاب العقول الناقدة ، بتجربة مثيرة أجراها " باستير " على عدد من خرافه .. فقد عمد لإطعامها بعشب لوثه صناعياً بالميكروب، وانتظر أياماً لظهور المرض ، ولكن الخراف - يا للعجب - لم تصب بأى سوء. ولكن حين أضاف إلى عليقتها قليلاً من عشب ذى أشواك، من شأنه خدش الألسنة وإدماء الأفواه، سقطت الخراف جميعاً فريسة الجمرة القاتلة .
إن هذه التجربة تلفت النظر إلى أن العدوى يتيسر حدوثها بالفم، كلما تيسر للميكروب الوصول إلى الدم، عبر خدوش الألسنة أو جروح الأفواه، وفى الدم، يضاعف الميكروب من نفسه، ويزيد من وتيرة نشاطه التخريبى وعمله، على نحو يدفع إلى ظهور أعراض التسمم الدموى على الأبدان ، والتى تفضى إلى موت الحيوان .
ويستطيع الباحث البكتريولوجى التثبت من وجود الميكروب ، بعمل اختبار بكتريولوجى من الوريد الأذنى للحيوان، حيث يأخذ مسحات دموية على شرائح زجاجية، ثم يقوم بصبغها بصبغة جرام Gram, s stain ، والبحث عن عصيات الجمرة تحت عدسات مجهره .
كذلك يستطيع الباحث التثبت من وجود الداء فى الحيوان أو فى منتجاته، بإجراء تحليل سيرولوجى (مناعى) ، للكشف عن الأجسام المناعية المضادة للميكروب. وهذا يستوجب إجراء غليان لعينة صغيرة من نسيج الحيوان، ثم إضافة قليل من المصل المناعى للجمرة Anthrax immune serum ، إلى المستخلص الصافى الناتج عن الغليان، ثم الانتظار قليلاً. فإذا حدث ترسيب خلال 15 دقيقة، دل ذلك على إصابة النسيج، ومن ثم إصابة الحيوان .
من الحيوان إلى الإنسان :
الواقع أن مرض الجمرة الخبيثة يعد واحداً من الأمراض المشتركة المهمة بين الإنسان والحيوان . وهو من الأمراض المهنية التى تصيب الإنسان. ولأجل ذلك يتعرض لهجمته الكثيرون ممن تقتضى طبيعة عملهم مخالطة الحيوان، وكذلك ممن يتعاملون مع إفرازاته أو منتجاته كالصوف والشعر والجلد والعظام .
وعلى هذا النحو .. فإن الجمرة تصيب المزارعين ومربى الحيوانات، كما يمكن أن تبلغ العاملين فى السلخانات، والجزارين فى المحلات. ولعلها تطال أيضاً من يعملون فى صناعة الصوف، وصناعة دبغ الجلود، والذين يعملون بصناعة الأحذية وفرش الحلاقة وفرش الشعر ونحوها. وقد ينتقل المرض إلى العاملين بصناعة السجاد والفراء والبطانيات الصوفية، وإلى العاملين فى صناعة المخصبات العضوية، التى تقوم على روث ومخلفات الحيوان . وقد تصل جرثومة المرض - عبر الذبائح المصابة- إلى العاملين بصناعة حفظ اللحوم ، ولا ينجو من شرورها الأطباء البيطريون ومساعدوهم، بحسبانهم أوثق صلة بصحة الحيوان. ونضيف إليهم، العاملين فى مختبرات التحاليل الباثولوجية والبكتريولوجية الذين يقتضى عملهم زرع الميكروب فى الأطباق والأنابيب. أيمكن أن يكون الأمر حقاً بهذا السوء؟
كلا .. لحسن الحظ ، فلابد من توافر آليات مناسبة للعدوى حتى ينتشر الداء. ولكن، إذا وجدت الآليات، فإن الغزو الميكروبى سينطوى على خطر كبير